كيف يمكن للاهوت التحرير أن يعلم الصحة العامة




ترجمة: يزن هدمي , لجين الصدّر , تدقيق : محمد فرح
فريق الترجمة - مجموعة ابن الجزار القيرواني الطبية

إن اثنين من أعظم أساتذتي هما رجلان من أمريكا اللاتينية، كلاهما تم توسيمه كاهناً كاثوليكياً. أحدهما، وهو رئيس الأساقفة السيد أوسكار روميرو، تم اغتياله عام 1980 م. لم ألتقِ به قط، نظراً لكوني أمريكياً يبلغ من العمر 20 عاماً لم يطأ بقدمه أرض دولة السلفادور أو أي مكان آخر في أمريكا اللاتينية. ولكن روميرو جعلني أنا -الكاثوليكي غير الملتزم- أتساءل عن سبب نظرة الطبقة الراقية السلفادورية لآرائه بعدائية مهلكة - بل آرائنا جميعاً، إن كانت تعني التعاليم المسيحية الاجتماعية شيئاً. فبنهاية الأمر كان كل شيء مستمداً من الكتاب المقدس، أليس كذلك؟ في الحقيقة لم أكن أعلم. هل كان الأمر يستحق النظر في الكتب لمثل هذه الأمور؟ هذا ما كنا نظنه في كلية الطب البشري: ابحث عنه في الكتب! .. وهكذا قادني روميرو إلى الأستاذ الثاني، والذي يسرني أن أقول إنه حيٌّ معافى ويعيش (في غالب أوقاته) في مدينة ليما في البيرو. غوستافو غوتييريز، قسيسٌ دومينيكي وديعٌ ومتواضع، وصديقٌ مقرب للسيد روميرو، علمني كثيراً من خلال كتاباته، من كتاب "قوة الفقراء عبر التاريخ" وحتى كتاب "إنما نشرب من آبارنا"، وبعد ذلك عبر صداقته وتفاؤله الخيالي (بالنسبة لي على أية حال). على مدار العشرينيات من سنين حياتي، بدأت حبال إيماني الهزيلة والمهترئة تقوى وتعود لإطار حياتي شيئاً فشيئاً، وقد كنت أظنها من قبل مقطوعةً. كان هنالك خيطٌ أقوى بقليل مما كنت أتخيل، ظهر أمامي بوضوحٍ بفضل مرضاي وأصدقائي ومضيفيّ الهايتيين من جهة، ومن جهة أخرى بفضل النشطاء الاجتماعيين الكاثوليكيين الذين يعملون لدفع الفقر في المراكز المختلفة في شتى الأحياء الفقيرة في بوسطن ومزارع كارولينا الشمالية وأحياء ليما الفقيرة. كان من بينهم راهبات وقسيسون، وغيرهم أفراد ناشطون من عامة الناس ومن مختلف المهن. كان المعظم أناساً يعيشون في العسر ويكافحون لدفع فقرهم وفقر الآخرين. علمتني فاعليتهم الكثير حول جانبٍ من الكنيسة الكاثوليكية لم أكن رأيته بوضوحٍ من قبل، والكثير حول وعد الالتزام طويل الأمد في الصراعات الهامة والبارزة ضد الفقر والتمييز العنصري بجميع أشكاله. هذا يشمل المساواة بين الجنسين، وهو ليس بأمر غريب على المؤسسة. وقد كان أغلب الناشطين الأكثر إلهاماً بينهم من النساء. يخطر ببالي الآن كاهن ثالث من أمريكا اللاتينية. إن من حسن حظ عالمنا المضطرب والجميل أن كلاً من رئيس الأساقفة روميرو والأب غوتييريز يحتلان موضعاً في أفكار البابا فرانسيس. لا يمكن للمرء أن يكون يسوعياً (جيزويت) من الأرجنتين دون أن يكون للاهوت التحرير مكان في أفكاره. ولكن الآن أصبح هذا الرجل هو البابا في روما، وهنالك بالعادة لم تحظ الأفكار التقدمية أو الثورية ترحيباً حميماً.
قد يكون هذا في طور التغير، على الأقل في كلمات وأفعال البابا فرانسيس، والتي اشتملت الحديث عن كيفية إكرام ذكرى روميرو بأفضل طريقة، بالإضافة إلى مشاورات حصلت مؤخراً مع الأب غوتييريز. لقد انشرح صدري لمعرفتي باللقاء الأخير الذي حصل بين الرجلين اللاتينيين، ومعرفتي أنهما صليا قداساً سوياً، وليس هذا فقط "من أجل مصلحة الكنيسة كلها" (كما في كلمات أحد الطقوس). لقد أسعد هذا الأمر قلبي، وحاك تلك الخيوط الإيمانية فيه حتى أصبحت أكثر تماسكاً، لأن العالم الدنيوي يحتاج إلى لاهوت التحرير. على مدى السنوات الخمسة والعشرين الماضيات، لم أتفقه كثيراً في علم اللاهوت (كان الطب البشري وعلم الإنسان أكثر مما يكفيني)، لكني وآخرين من طلاب الطب قد أخذنا عدداً من المفاهيم الأساسية من علم لاهوت التحرير وطبقناها في الطب البشري. دعوني أتحدث عن ثلاثة من تلك المفاهيم التي كانت لها أهمية كبيرة في عمل "شركاء في الصحة" وهي جمعية شاركتُ في تأسيسها لصنع "خيار ذي أفضلية للفقراء في الحصول على الرعاية الصحية" في مراكز تمتد من أرياف أمريكا اللاتينية (هايتي، غواتيمالا، المكسيك) وإفريقيا (رواندا، مالاوي، ليسوتو) إلى الأحياء المدنية الفقيرة (بيرو، والولايات المتحدة) وحتى إلى داخل سجون سيبيريا. لقد كتب غواتييريز كتباً عديدة حول كل هذه الأفكار وسعى لتعليمها والتعلم عنها من داخل كنيسته الخاصة.

المفهوم الأول هو الخيار التفضيلي للفقراء. إن أي فحص جدي للأوبئة يثبت بشكل دائم أن الميكروبات تعطي الأفضلية للفقراء. ولكن الطب وممارسيه، حتى في مجال الصحة العامة، نادرا ما يفضلونهم. تخيل حجم المعاناة التي لا داعي لها والتي قد نتجنبها كلنا إذا كانت نظم الرعاية الصحية والتعليمية والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية لدينا اتخذت حقا خيارا تفضيليا لصالح الفقراء؟
 
والمفهوم الثاني هو العنف الهيكلي. بالتأكيد، تحدث أشياء سيئة. لكنها لا تحدث في كثير من الأحيان بشكل عشوائي. العنف ضد بعض الفئات في هذا العالم يحدث إما بسبب الفقر والعنصرية وعدم المساواة بين الجنسين أو رهاب المثلية الجنسية والأجانب. هذا العنف، والذي يعرفه غوتييريز وآخرون بأنه العنف الهيكلي أو "الخطيئة الهيكلية"،  تأسس من خلال تصنيفات اجتماعية غير عادلة، لكن بالإمكان أيضا التراجع عنه بمساعدة ترتيبات أكثر عدالة.
 
يتعين على العالم العلماني فهم أن ما يمكن أن "يحررنا من كل القلق" هو الانفتاح أمام الفقراء وإعطاء الفرصة للمهمشين بالازدهار.وهذا لا يمكن أبدا أن يحدث إذا كان هناك الجوع والترتيبات السياسية غير العادلة، والاعتداءات المستمرة على البيئة، وانعدام شبكة الأمان لحماية المرضى والعاطلين عن العمل، والضعفاء. القواعد الحالية للرأسمالية الحديثة ليس باستطاعتها تخليصنا من العنف الهيكلي أكثر مما يمكن أن تفعله الحروب أو أي شكل آخر من أشكال "عنف الواقع". ولكن فهم كيفية تكوين العوالم الاجتماعية التي نعيش فيها قد يساعدنا على القيام بذلك، تماما كما يفعل لغز الأمل.
 
التصور الثالث هو المصاحبة. إن قوة هذه الفكرة البسيطة، وهي مادة أساسية في اللاهوت التحرري، جاءت إلي عند تفكيري بالمرضى الذين يعانون من الفقر والأمراض المزمنة. هؤلاء الذين أضاعوا مواعيدهم، ولم يلتزموا بالوصفات الطبية، ولم "يمتثلوا" لمشورتنا. وهذا أمر حقيقي في كل بلد عملت فيه. ولكن عندما بدأنا العمل مع العاملين في مجال الصحة المجتمعية من أجل الإهتمام ورعاية المرضى، كانت النتائج التي سعينا جميعا إلى تحقيقها أكثر قربا. فبدلا من طرح السؤال "لماذا لا يلتزم المرضى بعلاجنا؟" بدأنا نسأل: "كيف يمكننا أن نرافق مرضانا على طريق العلاج أو العافية أو حياة أقل معاناة بسبب المرض؟" ومرة أخرى يمكن لهذا التصور أن يكون موضع ترحيب في الأطر خارج الكنيسة؛ فكم عدد المؤسسات، بما في ذلك المسؤولين عن المساعدات الخارجية، التي تحتاج بشكل ملح إلى استبدال تلك الترتيبات المحدودة زمنيا والمعقدة، وغير المتكافئة دائما تقريبا - أي بين عامل المعونة ومتلقيها - بالمرافقة الحقيقة والتضامن؟ تخميني هو: تقريبا كلهم.
 
فقط هذه المفاهيم وحدها هي تذكير بمؤسسة تمتد حتى 2000 سنة إلى الوراء والتي لا تزال قادرة على إنماء قادة مثل المطران روميرو والأب غوتييريز. إنني أتمنى مخلصا أن تقوم الكنيسة التي يقودها البابا فرانسيس بتطويب الرجل الأول (المطران روميو) والاستماع بشكل مستمر للرجل الثاني (الأب غوتييريز). يمكننا جميعا أن نتعلم من كليهما كما تعلما هما من خلال الانصات والاستماع إلى الفقراء والمضطهدين.

بول فارمر هو أستاذ جامعة كولوكوترونيس في جامعة هارفارد ومؤسس مشارك في برنامج بارتنرز إن هيلث (شركاء في الصحة). آخر كتاب له هو "في مصاحبة الفقراء: محادثات مع الدكتور بول فارمر والأب. غوستافو غوتييريز" (أوربيس بريس). وقد عمل كطبيب أمراض معدية في هايتي وبيرو ورواندا وبوسطن
--------------------------------------
مصدر المقال :
https://www.pih.org/article/dr.-paul-farmer-how-liberation-theology-can-inform-public-health

تعليقات